نصر تركيا على انقلاب 15 يوليو- تحرير أم مؤامرة؟

هل يجدر بنا اعتبار النجاة من انقلاب كهذا انتصارًا حقيقيًا؟
قد يبدو هذا السؤال للوهلة الأولى ضربًا من العبث، إذ لولا ذلك الانقلاب المشؤوم، لما تجلت هذه المقاومة الشعبية الشجاعة، ولما سُطر هذا الانتصار التاريخي العظيم في سجلات تركيا. وبالنظر إلى هذا المنظور، ومع إجلال الانتصار الذي تحقق، يمكن الزعم بأن مدبري الانقلاب قد رسموا خطة مُحكمة، وإن كانت تحمل في طياتها شرًا مستطيرًا.
لم يظهر هذا التوجه عقب 15 يوليو/تموز مباشرة، بل برز بعد فترة وجيزة، حيث استندت نظريات المؤامرة بشكل واسع إلى هذا النوع من التسبيب اللاهوتي العلماني لتبرئة المتورطين في الانقلاب. عبارات مثل "الانقلاب تحت السيطرة" كانت بمثابة البلسم الشافي للانقلابيين المتلهفين لتطهير ساحتهم، فتشبثوا بها بكل ما أوتوا من قوة. ورغم ما حملته هذه العبارة من ابتذال وسذاجة في البداية، إلا أنها مع مرور الوقت وتكرارها المستمر، ساهمت تدريجيًا في التخفيف من وطأة الخيانة التي تلت 15 يوليو/تموز، وفي التقليل من شأن المقاومة الباسلة وقصة التحرر من براثن الانقلاب.
في تلك الليلة العصيبة، ليلة الانقلاب، أجريت اتصالًا من المسجد الموجود في البرلمان التركي، وأعتقد أنني كنت أول من تحدث لقناة الجزيرة وأكد أن ما يحدث هو محاولة انقلابية يرفضها الشعب ويرفض الخضوع لها. وأوضحت في ذلك الخطاب أن هذه ليست مجرد محاولة انقلابية عابرة، بل هي محاولة غزو مدعومة من قوى خارجية معادية لتركيا.
إن الانقلاب نفسه كان مؤامرة ضخمة بكل المقاييس. ولإضفاء الشرعية على هذا العمل الخائن، كان لا بد من تشويه الحقائق وتزييفها بشكل فظيع، واختلاق مبررات واهية من العدم. وقبل كل شيء، كان عليهم أن يتمتعوا بتنظيم فائق الدقة والتعقيد لتنفيذ الانقلاب، وأن يكونوا على أهبة الاستعداد على كافة الأصعدة: من حيث التسليح، والإعلام، والسياسة، والاستخبارات على المستويين المحلي والدولي، وحتى على المستوى الشعبي. ومثل هذا الهيكل السري الخفي يتطلب قدرًا هائلاً من التشويه للواقع والتعتيم على الحقائق.
إن صمت الانقلابيين واستسلامهم الفوري عند ضبطهم متلبسين بالجرم، ومحاولتهم اليائسة -بعد الفشل في الدفاع عن أنفسهم- تحميل مسؤولية الانقلاب للقوى التي قمعته، بالإضافة إلى وجود الكثير ممن يصدقون رواياتهم الملفقة؛ كل ذلك يدل على أن الخطر الذي أدى إلى كارثة 15 يوليو/تموز ما زال قائمًا ويتربص بنا.
كان من المستحيل على الانقلابيين أن ينفصلوا عن الدولة بتلك السهولة، تلك الدولة التي تسللوا إليها على مدى خمسين عامًا وكانت تقريبًا تحت سيطرتهم الكاملة. لكن كل الاحتمالات كانت واردة، ولو نجحت محاولة الانقلاب الآثمة، لكانت تركيا اليوم في وضع لا يحسد عليه. ولعل أبرز ما يميز هذا الانقلاب عن غيره من الانقلابات التقليدية هو أنه لم يكن مجرد تغيير للسلطة داخل البلاد، بل كان -على النقيض من ذلك- محاولة غزو شاملة للوطن.
أؤكد أنني أجريت اتصالًا من المسجد التابع للبرلمان التركي في تلك الليلة الحالكة، وأعتقد جازمًا أنني كنت أول من تحدث لقناة الجزيرة وأكد أن ما يحدث هو محاولة انقلابية لن يرضخ لها الشعب وسيرفضها بكل قوة، وأوضحت في ذلك الخطاب أن هذا الانقلاب ليس مجرد محاولة انقلابية بسيطة، بل هو محاولة غزو سافرة بتواطؤ قوى خارجية معادية لتركيا وتسعى للنيل منها.
في الجنوب الشرقي المضطرب من تركيا، ظهرت منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية كقوة مساعدة لهذا الغزو الغاشم. ولو قدر الله ونجح الانقلاب في تلك الليلة، فإن أول ما كنا سنشهده هو خروج منطقة جنوب شرق تركيا عن السيطرة بشكل كامل، بسبب القوات التي بدأت عملياتها في سوريا منذ زمن وانتشرت إلى تركيا، والمدعومة بسخاء من قبل الولايات المتحدة بأطنان من الأسلحة الفتاكة.
يعلم الله وحده كم من الأراضي التركية كنا سنخسر نتيجة لهذا المخطط الشيطاني. إن الخيانة التي حولت معركة تركيا ضد الإرهاب إلى صراع عبثي مع الجبال والصخور لمدة ثلاثة عقود دون إحراز أي تقدم ملموس، كانت جزءًا لا يتجزأ من هذا التشكيل الخبيث.
من خلال عمليات التطهير التي طالت الجيش واستهدفت العناصر الخائنة التي تغلغلت فيه، والتي انطلقت عقب أحداث 15 يوليو/تموز، تمكنت القوات المسلحة التركية من قطع شوط كبير في فترة وجيزة، وتحقيق إنجازات عظيمة لم تتمكن من تحقيقها على مدار الثلاثين عامًا الماضية.
وبينما اقتربت البلاد من تحقيق مستوى القضاء التام على الإرهاب في غضون ست سنوات فقط، فقد تمكنت أيضًا -بفضل العمليات العسكرية الناجحة التي نفذتها في سوريا- من فرض سيطرتها على منطقة تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة شمال قبرص تقريبًا.
لقد كان الدعم الذي قدمته القوات الجوية التركية لأذربيجان حاسمًا في الحرب التي وضعت حدًا للاحتلال الأرميني الغاشم في ناغورني قره باغ الذي استمر لمدة ثلاثين عامًا عجافًا، كما أن وجود القوات المسلحة التركية القوي في ليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط يمثل قوة رادعة قادرة على تحقيق نتائج إيجابية ومثمرة.
كل هذه المكاسب والانتصارات كانت بمثابة نتائج غير مرغوبة على الإطلاق من قبل الانقلابيين الخونة. إن تصفية العناصر الخائنة على أرضية النضال الجديدة التي أوجدتها محاولة الانقلاب الفاشلة قد أتاحت الفرصة لتركيا لاتخاذ خطوات ثورية جريئة في العديد من المجالات الحيوية. وبالنظر إلى هذه الفرص السانحة، نرى أن أولئك الذين يزعمون أن الانقلاب كان مجرد مؤامرة يتجاهلون ببساطة العلاقات السببية المنطقية، والأهم من ذلك أنهم يتجاهلون الحسابات الإلهية القديرة.
كان الانقلاب في حد ذاته مؤامرة بكل تأكيد، ولم يكن من الممكن القضاء عليه إلا بمؤامرة مضادة من نفس النوع. نحن الآن في مرحلة ترسخت فيها ثقافة الاستياء الباطنية الكامنة التي ستظل تشكل تهديدًا دائمًا ومستمرًا للأمن القومي لتركيا.
ختامًا، يشبه انقلاب 15 يوليو/تموز إلى حد كبير انقلاب 28 فبراير/شباط، لأنه يجسد السعي وراء الشر المطلق بكل معانيه. لكن الكثير من الخير قد تولد من رحم هذا الشر المستطير. وأولئك الذين لا يدركون هذه الحقيقة ويصفون الوضع بأنه "انقلاب تحت السيطرة" أو مجرد "مؤامرة مضادة"، لا بد أنهم يفتقرون إلى أبسط مبادئ المنطق السليم، وقد غابت عنهم الحكمة الإلهية التي تؤكد أن "عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم".